تعثّر الطريق الطويل نحو التعدّدية السياسية
6. نوفمبر 2025
مع دخول سوريا مرحلة ما بعد التحرير، يطغى سؤال مصيري على كثير من النقاشات، وهو هل نحن مقبلون على نظام تعددي فعلاً، أم على نسخة جديدة من النظام الأحادي السابق؟ ويزداد إلحاح هذا السؤال كلما ظهرت مؤشرات على أن قواعد الحياة السياسية تكتب من جديد.
يجري الحديث اليوم عن توجه لدى الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني بتأسيس حزب سياسي جديد، بإشراف «الأمانة العامة للشؤون السياسية» التابعة لوزارة الخارجية، والتي تولت ضبط مشهد الفاعلية السياسية في البلاد. وتتناقل الصحف أخباراً عن مشاورات تجري في دوائر الحكم الضيقة لقيام حزبٍ قد يُشكّل نواة السلطة الحاكمة في النظام الجديد، وإن لم يُعلن عنه رسمياً بعد. بعد ساعات، خرج نفيٌ حكومي غير رسمي من بعض المحسوبين على السلطة بأن الحديث يدور فقط عن «إطار إداري مؤقت» لإدارة شؤون الحياة السياسية حتى صدور قانون الأحزاب، ولكن كثيرين لم يقتنعوا. على وسائل التواصل، ظهرت عشرات التعليقات من نشطاء وكتّاب يتساءلون: هل هذا حزب الدولة الجديد؟ رحّب البعض بالفكرة بوصفها خطوة نحو تنظيم الحياة السياسية، بينما رأى آخرون فيها بداية تكريس لهيمنةٍ جديدة تحت اسمٍ مختلف.
وتأتي نتائج «المؤشر العربي 2025» لتكشف فجوة مهمة: السوريون يظهرون رغبة واضحة في الديمقراطية، ويعتبر أكثرهم أن النظام التعددي هو خيارهم المفضل، لكنهم لا يرون للآن ترجمة سياسية لهذه الرغبة. وهذه الفجوة بين ما يتوقعه الناس وما تقدّمه الحكومة تفتح الباب أمام سؤال آخر لا يقل أهمية: إذا كان الشارع بات جاهزاً للتعددية، فمن الذي يعطّلها؟
هنا يظهر الخطاب الذي قدّمه الشرع خلال الأشهر الماضية. فمنذ ما قبل دخول دمشق حرص على الابتعاد عن اللغة العسكرية، وبدأ يتحدث عن «التمثيل الشعبي» و«المؤسسات المدنية»، وذهب أبعد من ذلك في 12 أيلول عندما قال عَبر الإخبارية السورية: «في نهاية المطاف ستكون هناك تعددية سياسية في سوريا، وهناك آراء مختلفة، فهذه الحالة الطبيعية التي تليق بسوريا».
التعددية ضمن الحدود
هذا التصريح بدا وكأنه محاولة لطمأنه الشارع الثوري، لكنه في الوقت نفسه أعاد طرح السؤال: إذا كانت التعددية «طبيعية وتليق بسوريا»، لماذا تبدو خطوات الوصول إليها محكومة بسقف منخفض؟ فالواقع يشير إلى أن التعددية التي تتحدث عنها الحكومة أقرب إلى تعددية مضبوطة لا تتجاوز حدوداً معينة. تُفتح أبوابها للأصوات المختلفة، لكنها تُغلق حين تقترب من التأثير في القرار. وهذا النهج، رغم أنه قد يبدو مفهوماً في بلد خرج للتو من حرب طويلة، إلا أنه أنتج على الأرض نموذجاً آخر: تعددية فئوية غير سياسية (طائفية ومناطقية) كرّست الانقسامات بدل أن تخففها، وظهرت آثار ذلك في ملفات الساحل والسويداء وقسد، حيث تعاملت الحكومة مع التنوع المجتمعي كواقع أمني لا كواقع سياسي.
ولا تختلف هذه المقاربة كثيراً عما قامت به دول أخرى بعد النزاعات. فقد أنشأت السلطات في عدة دول عربية أحزاباً مقربة منها، بعضها قديم مُستقطب، والآخر صُنع على عينها، وذلك لإدارة الانتقال السياسي دون أن تخسر السيطرة، فنتج استقرار إداري لكنه لم يُورّث حياة سياسية فعالة. لكن التجربة السورية تحمل عنصراً مميزاً: المكوّنات المدنية التي نشأت خلال سنوات الثورة تحولت اليوم إلى نواة أحزاب حقيقية بحكم الواقع، وهي تنتظر فقط قانوناً يسمح لها بالترخيص ومزاولة عملها. وقد يُقرأ تجاهل هذه المكوّنات على أنه رسالة مفادها أن المجتمع مستعد للمشاركة، لكن الدولة تريدها داخل إطارها الخاص لا خارجها.
ماذا يأتي أولاً؟
ويزداد المشهد تعقيداً مع اقتراب المجلس التشريعي الجديد من مناقشة قانون الأحزاب. فشرعية المجلس نفسها وُضعت أمام تساؤلات حول قدرته على تنظيم حياة سياسية في مجتمع غير منظم حزبياً أو نقابياً. وكذلك المنطق الذي يقول بتأجيل تشكيل الأحزاب إلى نهاية المرحلة الانتقالية، رغم أن هذه المرحلة ستُختتم بانتخابات تحتاج أساساً إلى أحزاب. هكذا يصبح الخلاف حول توقيت إصدار قانون الأحزاب في الحقيقة خلاف حول فلسفة إدارة المرحلة الانتقالية: هل تُفتح تدريجياً؟ أم تُضبط قدر الإمكان وفق اجتهاد القيادة حتى اللحظة الأخيرة؟
لا يبدو أن الحكومة السورية جادة في الوصول إلى تعددية سياسية حقيقية، إذ تتوزع مواقفها بين خلفيتها العقائدية والتنظيمية التي تقدّس وحدة القيادة وتخشى الفوضى السياسية أكثر من الاستبداد المؤقت، وبين اعتبارات واقعية تتعلق بالحفاظ على السيطرة في ظل شرعية دولية متزايدة، فضلاً عن تأثير الضغوط الخارجية التي تميل فيها القوى الكبرى إلى تفضيل نظام يمكن التنبؤ به، حتى لو انكفئ انفتاحه على مجتمعه والقوى السياسية.
ومع كل هذه التعقيدات، يظهر أن الحكومة لا تزال تتعامل مع السياسة كمجال يحتاج إلى رقابة وانضباط. فخطابها يتقدم خطوة نحو التعددية، بينما ممارساتها تظهر خطوة إلى الخلف. ورغم أن الشعب أكثر استعداداً للتعددية، إلا أن نهج الحكومة قد يؤدي إلى «انتقال مؤجّل»، حيث يٌسمع كلام كثير عن الانفتاح والمشاركة بينما تبقى المؤسسات خاضعة لسيطرة محكمة.
اليوم، تبدو سوريا أمام مفترق طرق واضح. فإما أن تُطلق تعددية حقيقية قادرة على إنتاج انتخابات فعلية وتنافس سياسي واقعي في نهاية المرحلة الانتقالية، وإما أن تعيد إنتاج النظام الأحادي باستخدام لغة أكثر نعومة، وتحت عنوان «استقرار المرحلة الانتقالية». وبين النموذجين، يطالب السوريين بما يعتبرونه حقهم الطبيعي، والذي تقول لهم حكومتهم إنها تتجه نحوه، ولكن بخطوات محسوبة إلى حدٍ قد يفقد «التعددية» معناها الحقيقي. فالتجارب القريبة تؤكد أن الضبط الطويل يولّد الجمود، وأنّ الأنظمة التي تبدأ بـ«تعددية مُراقَبة» كثيراً ما تجد صعوبة في الإفلات منها لاحقاً.