ضابط العنف: أحمد الشرع والقوى الكبرى

6. نوفمبر 2025

لم يكن وصول رئيس المرحلة الانتقاليّة، أحمد الشرع، إلى السلطة في دمشق نتاج صدفة أو انقلاب عسكري، بل تعبيراً عن مسار طويل من التحولات البراغماتية التي أعادت رسم موازين القوى في سوريا. كان ذلك تتويجاً لتفاهم غير معلن بين القوى المؤثرة (الولايات المتحدة، بريطانيا، روسيا، تركيا، وإسرائيل) التي رأت فيه خياراً انتقالياً واقعياً بعد استنزاف جميع البدائل من نظام ينهار ومعارضة منقسمة.

الشرع، الذي تحوّل من جهادي على صلة بالقاعدة إلى زعيم محلي منفصل عنها ويسعى للاعتراف الدولي، مثَّل نتاج ما سُمّي بـ "سَورَنة الجهادية". أي تحويلها من مشروع أممي إلى مشروع محلي منضبط. ولربما وفّر هذا التحوّل فرصة لالتقاء المصالح الكبرى؛ فواشنطن ولندن وجدتا فيه أداة لضبط الأمن دون تدخل مباشر، فيما رأت موسكو في سلطته المنظّمة ضمانة لتجنّب الفوضى، بينما اعتبرته تل أبيب صمام أمان لتجميد جبهتها الشمالية وكبح النفوذ الإيراني. هكذا، لم يكن وصول الشرع انقلاباً داخلياً بقدر ما كان نتيجة توافق دولي على أنّ سوريا تحتاج لمركز سلطة منضبط، ولو بيد من كان بالأمس على قوائم الإرهاب.

سياسة الدول المؤثرة في الملف السوري

تتقاطع المصالح الدولية في سوريا عند هدف واحد هو إيجاد سلطة منضبطة تضمن الأمن دون خلق فراغ جديد أو مواجهة إقليمية. في هذا السياق، قد يكون أحمد الشرع خيار توافقي مرحلي بين القوى الكبرى؛ فواشنطن ولندن تدعمانه ضمن أولوياتهما الثلاث: مكافحة الإرهاب، كبح النفوذ الإيراني، وضمان الاستقرار الإقليمي. وقد أثبت الشرع قدرته على ضبط تنظيمات عصيّة، كالمقاتلين الأجانب، وتحويل سلطته في الشمال إلى نموذج أمن فعّال منخفض الكلفة ضَمِن الاستقرار ومنع تدفّق اللاجئين، إلى حين بلوَرة تسوية أوسع.

أما إسرائيل، فقد تنظر إليه كحاجز ميداني أمام إيران وحزب الله، خاصة مع تركيزه على الأمن الداخلي بدل الجهاد الخارجي، وتجنبه فتح جبهات في الجولان، ناهيك عن التمهيد لفكرة "التعايش الأمني" في الأوساط السنّية بدلاً من العداء الدائم، ما يوفّر لتل أبيب هدوءً حدودياً ولو حتى حين. في المقابل، ترى تركيا في الشرع وسيلةً لتأمين عمقها الحدودي ومنع تمدد وحدات حماية الشعب ومشروعها الكردي، وإدارة ملف اللاجئين. وبدورها، تعتبر روسيا صعوده واقعاً براغماتياً يحمي مصالحها في الساحل ويتيح انسحاباً تكتيكياً دون فقدان النفوذ الاستراتيجي. أما السعودية، فترى فيه قائداً سنياً براغماتياً يحدّ من نفوذ إيران ويحارب اقتصاد الكبتاغون، بما ينسجم مع رؤيتها للاستقرار ما بعد الأسد. وهكذا، يجسّد الشرع نقطة التقاء نادرة بين مصالح متناقضة، بوصفه الخيار الأقل كلفة والأكثر واقعية للمرحلة الانتقالية لحين بلوَرة خريطة الحكم النهائية لسوريا الجديدة.

وفي المحصلة، لا يبدو أن أحمد الشرع يستند إلى توافق استراتيجي، بقدر ما يقوم على تلاقي مصالح مؤقت بين قوى تسعى لمنع الفوضى في سوريا، والتي من المحتمل أن تتصادم عند أول اختلافٍ في المصالح: واشنطن وأنقرة حول دور قوات سوريا الديموقراطية، موسكو والغرب حول إعادة الإعمار والطاقة، إسرائيل وتركيا حول النفوذ الأمني، إسرائيل والدول العربية حول الاستقرار الإقليمي ومسارات التطبيع.

جوانب القوة والضعف عند الشرع

يستمدّ أحمد الشرع قوّته كخيار انتقالي من فكرة أساسها الكفاءة الأمنية والمرونة السياسية، ما جعله مقبولاً (ولو بتحفظ) لدى أطراف تبحث عن سلطة ملتزمة ما بعد سقوط الأسد. فقد نجح في بناء جهازٍ أمني متماسك يوفّر استقراراً نسبياً في مناطق سيطرته. وتمكّن من ضبط المقاتلين الأجانب وتفكيك بعضها، وصار بالتالي الشخصية القادرة على احتواء التطرف داخل الحاضنة السنّية. كما أظهر براغماتية سياسية لافتة بتخليه عن الخطاب الجهادي واعتماده لغةً مرنة.

لكن هذه المكاسب قد ترافقها نقاط ضعف بنيوية تحدّ من قدرته على التحول إلى قيادة وطنية جامعة. فإرثه الجهادي واسمه المدرج على قوائم الإرهاب قد يقيدان اعتراف الغرب به، فيما يُشكّك خصومه في صدقية تحوّله السريع ويرونه "مناورة للبقاء". كما يواجه رفضاً من احزاب علمانية وليبرالية معارضة ومكونات قومية ودينية تخشى من هيمنة تشدد ديني. ناهيك عن أزمات اقتصادية ومعيشية، وانتهاكاتٍ حقوقية من قبل أجهزته الأمنية، ما يجبره إن أراد تثبيت موقعه على الانفتاح على جميع المكونات وضمان الحقوق والحريات وصياغة عقدٍ اجتماعي جديد يقوم على المشاركة.

السيناريوهات المستقبلية

يبدو أن دور أحمد الشرع مرسومٌ كمرحلة انتقالية مؤقتة، هدفها تثبيت الأمن ومنع الانهيار، لا تأسيس نظام دائم. ففي أفضل السيناريوهات، بأن ينجح في نيل (شرعية ملزمة) بفكّ ارتباطه بالجهادية العالمية، ومكافحة الإرهاب، وضمان تعاون أمني مع تركيا وإسرائيل، وحماية الأقليات والانخراط السياسي بضم مختلف المكونات السورية في هياكل الحكم وخاصة الجيش والأمن.

أما في السيناريو الثاني (المرحلي)، فيُستخدم لعامين أو ثلاث يفكك فيها الفصائل المتشددة ويضبط فيها الحدود، ويمهد للتطبيع مع إسرائيل، قبل تسليم السلطة لحكومة انتقالية شاملة أو مجلس عسكري مشترك. 

لكنّ السيناريو الثالث – الفشل – يظلّ الاحتمال الأرجح. فالفشل في كبح المتطرّفين، وتهميش الأقليّات، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتجدد العنف في مناطق مثل الساحل والسويداء، قد يدفع سوريا مجدداً نحو الحرب المفتوحة والفوضى. عندها ستُستعاد الصورة المألوفة: سوريا مجزأة إلى مناطق نفوذ تديرها الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإسرائيل، بحيث يؤمّن كل طرف حصّته من الركام.

أحمد الشرع، إذاً، ليس مؤلف الفصل القادم من تاريخ سوريا بقدر ما هو قَيّمٌ عليه. فهو رجل تحكمه التناقضات، يسعى إلى الحفاظ على توازنٍ هشّ تشكّل بفعل الإنهاك الجماعي. وأقصى ما يستطيع فعله هو أن يمنع البلاد من الانزلاق مجدداً إلى الهاوية.

Cover image

ماجد داوي

ناشط سياسي وحقوقي كردي سوري.

أحدث الأعداد

  • نوفمبر 2025

    عدد 29

  • سبتمبر 2025

    عدد 28

  • أغسطس 2025

    Issue 27

  • يوليو 2025

    Issue 26

  • يونيو 2025

    Issue 25

اشترك ليصلك آخر أعداد مجلة سوريا المتجدّدة إلى بريدك الإلكتروني.

* يشير إلى الحقول المطلوبة
العربية