الممثل الرئيس

6. نوفمبر 2025

إنّ من لطائف التعبيرات العربية السياسية المعاصرة وصف مندوب الفئات الشعبية والطوائف والأحزاب السياسية بـ«ممثل الشعب» في البرلمان مثلاً، أما وصفه العربي في القرآن الكريم فهو النقيب (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً)، والسؤال الذي يَرِدُ على الخاطر هو: كيف بلغ الممثل كل هذا المجد، ولماذا يطمع في مجد الزعامة السياسة وهو غنيٌّ عن إكراهات السياسية وحروبها، فهل يريد الزعامة الحقيقية لا زعامة السينما والصورة المتوهمة. 

مجد النجم السينمائي دونه مجد الشاعر والكاتب والفيلسوف، فهؤلاء قد لا يُعرفون وقد لا يفهمهم سوى الخاصة. أما الممثل فيستطيع أن يكون شاعراً بتمثيل دور شاعر، وكاتباً بتمثيل دور كاتب، وفيلسوفاً وزعيماً سياسياً، وصعلوكاً ولصاً، وكأنه يتناسخ وهو حي، فتلتبس صورة البطل به، وهو ينطق أفضل البلاغات، وأبدع العبارات التي ابتدعها المؤلف، ولا يظهر إلا بعد محسّنات في الهيئة؛ حمرة شفاه وأنوار كاشفة. أما في السينما الهندية والأميركية فالممثل سوبرمان، خارق القوة، يجندل الأشرار بقبضته، فيطير الشرير بخدع سينمائية أمتاراً، ويراه المشاهدون في السينما، أمام حشد خاشع، في الظلام، ليس من ضوء سوى الشاشة المضيئة، ولاحقاً في التلفزيون في كل بيت، يناضل ضد الظلم، وينتصر. نرى حياة كاملة في ساعتين من غير ملل، أو في بضع حلقات درامية، تغلُّ المشاهد بأغلال التشويق.

يمثل الممثل أدوار الملوك والفرسان، فنتوهم أنه هو ذلك الشخص، بل يتوهم هو أيضاً، وينادى في المحافل بلقب دوره: أمير المؤمنين. وقد لا يكون مؤمناً، أو حتى مسلماً. إلى أن يلعب دوراً آخر فيُخاطَب به، بل بلغ السفه بنجوم المسلسلات التاريخية، وهم يلحنون في اللغة لحناً منكراً، أن يطرحوا نظريات في الإيمان والإلحاد، وحظهم في الفكر لا يجاوز ما حفظوا من حوارات في مسلسلاتهم. ورغب نجوم سوريون في اقتحام وطيس السياسة أو جاءتهم السياسة على طبق من ذهب بينما بذل الموهوب الأعظم في الشعر، المتنبي، عمره في ولاية لم يحظ بها.

وجد أيمن زيدان نفسه في مجلس الشعب من غير جهد سوى اتصال من المخابرات بأن يترشح، ففعل وفاز. ونقلت صحف عن الفنان جمال سليمان رغبته في الترشح لموقع الرئاسة، وجرت استفتاءات في مواقع تواصل على شعبيته. 

سبق لسليمان أن مثّل شخصيات تاريخية عظيمة مثل صلاح الدين وعبد الرحمن الداخل ومسلمة بن عبد الملك، وظنَّ أنه اكتسب خبرة في السياسة، وأصبح من الملوك أو من أقرانهم، واتخذ من ريغان وزيلنسكي قدوة ومثالاً، فانتفخ سحره بعد أن وصفه واصفون بأنه أكثر الممثلين ثقافة، لكن حسابات البيدر السياسي العربي غير حسابات الاستدويوهات، فنشر له أحد المعلقين صورة وهو يرقص مع راقصة على الواحدة ونص، وربما على الثانية بعد منتصف الليل.

قلَّ إن يقنع الممثل جمهوره بإخلاصه لهم، فهو متلّون حسب الفيلم، وكالسمكة لا يُمسك باليد. بل قد ينسى شخصيته من كثرة الأدوار التي يتقمصها، كما قال النجم الأمريكي الثائر مارلون براندو، والذي أرسل هندياً أمريكياً ليتسلم جائزة أوسكار نالها، استهانةً بها وإعلاءً لشأن الهندي الأحمر، صاحب الأرض الأول.

بدأ الممثل منبوذاً عند السوريين ولدى العرب عموماً، كما يبدو للقارئ عند مراجعة تاريخ الفن، والاطلاع على مسيرة أبي خليل القباني (أبو الفنون المسرحية السورية) ومعاناته في مسيرته الفنية الشاقة (1833 -1903) وهو من أعلام سوريا، ورائد المسرح العربي، ورائد المسرح الغنائي العربي.

كان لقب الممثل هو «المشخصاتي» تحقيراً له، فهو ينتحل الشخصيات، والانتحال كذب، لكن الممثل استطاع أن يشقَّ طريقه ويلقى القبول، ثم بلغ النجومية، بلعبه أدواراً كوميدية وتراجيدية، فالناس تتدفأ على المدفأة في الشتاء، وعلى التلفزيون في كل الفصول، حتى أنّ الممثل صار من أبرز المشاهير، يستعين به الرئيس في رفع روح شعبه المعنوية الراسبة في قاع البحر كالغواصة كورسك الروسية.

رثى بسام كوسا -الذي يلقبه نشطاء التواصل الاجتماعي بجوكر السينما السورية- حال الممثل السوري الفقير، وأظهر غيرة من ثروة النجم الهندي ومجده، فالهندي يركب ليموزين ويسكن قصوراً فارهة. لكن لم يدرك الفروق الثقافية والدينية بين الهنود والعرب، فالعرب مسلمون لا يزالون أحفاد قريش التي لم تدنُ لمُلك. يمكن تذكر قصة عثمان بن الحويرث، وسعيه للمُلك قبل ظهور الإسلام، بتزكية من قيصر الروم، وكان قد اقترح نفسه منتدباً لقيصر على الجزيرة العربية، لكنه أخفق في سعيه عندما صاح ابن عم له: أملكٌ بتهامة! فانفضّ عنه الناس.

سرعان ما قبل العرب الملوك في الأطراف والمركز أيضاً، وكان أول ملوك العرب معاوية بن أبي سفيان، لكنهم لم يقبلوا الممثل ملكاً، وقد وَهَمت ممثلة في سينما السبعينيات عندما قارنت نفسها بوزيرة الثقافة في اليونان النجمة ميلينا ميركوري، وقالت إنها ليست بخيرٍ منها، وغاب عنها الفروق الثقافية والدينية بين أثينا ودمشق.

يصبح الممثل نجماً، لكنه قلّ أن يصبح ملكاً. أما السياسي فيمثّل كثيراً، وقد برع ساسة وضباط في التمثيل السينمائي غير الدرامي، فهو يمثّل في نشرة الأخبار والخطابات واللقاءات، أمهرهم رئيس حالي خدع آخر بتمثيله دور التقي الخجول، ومازال يؤديه في المحافل السياسية. ويمكن أن نقول إنه ضابط وصل إلى الرئاسة بفن التمثيل مع مساعدة غربية مالية وعربية عسكرية، وإعلامية.

ومن لطائف الرؤساء الممثلين لعبهم أدواراً مميزة أمام الكاميرا، فأحدهم مشغول بيديه كأنهما زائدتان، فيعقد يديه على بطنه تخلصاً من محنة حملهما! وآخر برع في دور الخطيب الفصيح، المحب للقضية الفلسطينية، ولعب حافظ الأسد دور الصنم والتمثال، فبنى المئات منهم، ثم يذهب لحضور الاحتفاء بليلة الإسراء والمعراج، أو الاحتفال بالمولد النبوي، جالساً على الأرض، فيسرق المشاعر الروحانية، ويُحتفى بإسرائه من القرداحة إلى دمشق وعروجه إلى قصر المهاجرين!

يشقُّ على الممثل العربي بلوغ مجد السياسة، ويظفر السياسي الممثل بمجد الملك والرئاسة.

Cover image

أحمد عمر

كاتب سوري

أحدث الأعداد

  • نوفمبر 2025

    عدد 29

  • سبتمبر 2025

    عدد 28

  • أغسطس 2025

    Issue 27

  • يوليو 2025

    Issue 26

  • يونيو 2025

    Issue 25

اشترك ليصلك آخر أعداد مجلة سوريا المتجدّدة إلى بريدك الإلكتروني.

* يشير إلى الحقول المطلوبة
العربية