مدينة بين عالمين
حلب هي النقطة التي تنتهي عندها سوريا القديمة، وتبدأ منها سوريا الجديدة
نوفمبر 2025
بين النفوذ التركي المتنامي وصعود نخبة جديدة، تحوّلت حلب إلى مختبرٍ حوكمي لما بعد الدولة الوطنية. فهي لا تخضع تماماً للقمع، ولا تنعم بحرية كاملة، بل تُدار بعناية عبر شبكاتٍ أمنية واقتصادية إقليمية تتجاوز الحدود. بهدوءٍ ومن دون ضجيج، تمضي حلب نحو مستقبلها كأول مدينة «هجينة» في سوريا.
يصعب تحديد اللحظة التي توقّفت فيها حلب عن كونها مدينة محاصرة وبدأت تتحوّل. لم يأتِ التغيير عبر معركة أو اتفاق، بل من خلال الصراع الطويل والعنيد من أجل الحياة.
عندما سقط النظام في دمشق أخيراً في ديسمبر من العام الماضي، كانت حلب لا تزال تلتقط أنفاسها. لم تلتئم بعد جراح حصارات 2012–2016. ومع ذلك، فإن ما تلا لم يكن مجرّد انتقال للسلطة من نظام إلى آخر، بل كان انفكاكاً لحلب عن قيودها، أتاح لها للمرة الأولى أن تتعافى وهي تطفو بحرّية في محيطها الجغرافي.
اليوم، حلب عبارة عن فضاء يُدار من قبل من يستطيع. هي مدينة ليست خاضعة ولا متمرّدة، بل شيئاً فريداً بين الاثنين.
رئتان
من يتجوّل في شوارعها وقراها الريفية يلحظ أنّ الحرب لم تتركها ميتة بل تتنفّس من رئتين؛ واحدة سورية وأخرى تركية. الواجهات التي رمّمتها بلديات الجنوب التركي ما زالت تلمع فوق أرصفة مهدّمة.
في الأسواق، البضائع تُسعّر بالليرة التركية، والحديث عن دمشق يبدو غريباً كما لو أنّه يخصّ دولة أخرى. لم تعُد حلب «تتبع» أحداً، بل أصبحت تتبع الحاجة وحدها: من يقدّم الخبز والكهرباء والتعليم والأمن هو من يحكم، حتى لو لم يُعلِن نفسه حاكماً.
لم تُحتَلّ المنطقة بالدبّابات، بل أُعيد بناؤها عبر مشاريع البنية التحتية. الكهرباء التي ستصل إلى بيوت حلب تمرّ عبر الأسلاك القادمة من مدينة كلس التركية. أمّا المياه، فتُضخّ من آبار حفرتها منظمات تركية.
في هذا الفراغ الذي خلّفه سقوط دولة الأسد، تمدّدت أنقرة بهدوء كمن يسقي أرضاً عطشى.
غزوٌ صامت
كلّ ذلك يجري من دون إعلان رسمي أو لافتة حدودية جديدة. ما من علم تركي يرفرف فوق القلعة، لكن كل تفاصيل الحياة اليومية تؤكّد أنّ المدينة صارت جزءاً من زمن تركي طويل، زمن يتسلّل بخطى ناعمة ويعيد رسم الجغرافيا بلا قتال.
التحوّل في حلب ليس مجرّد قصّة نفوذ سياسي، بل قصّة فلسفية عن معنى الدولة حين تسقط، وكيف يمكن لجارٍ طموح أن يملأ الفراغ بأسلوب لا يُشبه الاحتلال الكلاسيكي ولا التحالف التقليدي.
فأنقرة في حلب تقدّم نفسها كمنقذ حضاري يسعى إلى إعادة التوازن الذي اختلّ منذ مئة عام، حين فُصلت المدينة عن الجنوب التركي بمسطرة اتفاقيتا سايكس–بيكو ولوزان، الأخيرة التي أنهت بشكل رسمي ما عُرف بالدولة العثمانية ورسمت حدود تركيا الحديثة.
في الذاكرة التركية، حلب لم تكن يوماً «مدينة أجنبية»، بل جزءاً من الجغرافيا العثمانية الكبرى، وميناءً برّياً للعالم الأناضولي نحو العالم العربي. لهذا السبب، يراها الأتراك اليوم أشبه بمفتاح لإغلاق قرنٍ من الانفصال، و«عودة رمزية» إلى العمق الطبيعي.
لغة السلطة الجديدة
يبدو الاقتصاد في هذا السياق اللغة الجديدة التي تُكتب بها السلطة. فمن خلال الإعمار والطرقات والمدارس والمستشفيات، تمكّنت تركيا من إعادة هندسة الولاء الشعبي دون أن ترفع صوتها.
كانت البداية بالمشاريع الخدمية المشتركة بين غازي عنتاب وبلدة اعزاز في الريف الشمالي عام 2017، ثم توسيع الربط الكهربائي. وبعدها تمدّدت الليرة التركية كرمز يومي للانتماء الجديد. لم تكن الليرة عملةً فحسب، بل عقداً اجتماعياً جديداً: من يتعامل بها يقبل ضمناً بالنظام الاقتصادي التركي، ومن يرفضها يعيش خارج السوق.
ومع تراجع دمشق عن المشهد بعد سقوط الأسد، أصبح الطريق إلى مدينة حلب مفتوحاً. بدت أنقرة وكأنّها الوريث المنطقي لا الغازي. القرارات تُصاغ في أنقرة وتُنفّذ في حلب. الوجوه سورية أمام الكاميرا، لكنّ الصوت في الكواليس تركي الإيقاع. ولعلّ الأدهى أنّ الناس لا يعترضون؛ فبعد سنوات من الجوع والدمار، أصبح "الاستقرار" عملةً أعلى من السيادة.
لكنّ الاقتصاد وحده لا يصنع الذاكرة، لذلك استعادت تركيا في خطابها الرسمي لغة الرموز. أعادت ترميم الأسواق العثمانية والخانات القديمة، ووضعت على جدرانها لوحات صغيرة تقول «بتمويل من بلدية غازي عنتاب».
في هذه التفاصيل اليومية يُعاد إنتاج التاريخ: حلب لم تعد مجرّد مدينة سوريّة تُرمم، بل قطعة من الذاكرة العثمانية تُستعاد.
حتى الواجهات المُرمّمة تُصمَّم وفق الطراز الذي يُرى في إسطنبول، لا في دمشق، إعادة الإعمار ليست مجرّد عملية هندسية، بل مشروع جمالي ذات بعد سياسي.
بيروقراطية النفوذ
هذا التداخل بين الاقتصاد والثقافة والإدارة خلق طبقة جديدة من الفاعلين المحلّيين، يمكن وصفهم بـ«الوسطاء». هم القادة الميدانيون الذين كانوا بالأمس فصائل متناحرة، صاروا اليوم ضبّاطاً في مؤسّسات «وزارة الدفاع السورية الجديدة».
هم رجال من خلفيات متواضعة انخرطوا بـ«العمل الثوري» واستفادوا كثيراً من ذلك، وهم الآن يلبسون بدلاتٍ ويتحدّثون بلهجة حلبية ممزوجة بالتركية، يديرون المجالس المحلّية ويوقّعون على الاتفاقيات باسم الحكومة السورية الجديدة.
إنّ هذه الطبقة الوسطى الجديدة، من القادة المحلّيين والتجّار ورجال الأعمال، هي التي تُعيد صياغة ملامح السلطة في المدينة. فحلب اليوم تُحكم بالشبكات الاقتصادية والاجتماعية المتداخلة التي تتغذّى على التمويل التركي. هؤلاء هم بيروقراطيو النفوذ الجدد الذين استبدلوا لغة المقاومة بلغة «المشاريع»، واستبدلوا الولاء بـ«الشراكة».
تحت سقف دولي منخفض
غير أنّ هذا النفوذ التركي، وإن بدا مستقرّاً، يعيش تحت سقف دولي منخفض. فروسيا التي انسحبت جزئياً من المشهد لا تزال تحتفظ بعين على المدينة، وتتعامل مع الوجود التركي كأمر واقع. موسكو تدرك أنّ أنقرة لن تتراجع عن شمال سوريا، لكنّها أيضاً لن تترك لها المجال لتتحوّل إلى وصيّة مطلقة. لذلك، تكتفي بابتزاز تركيا والضغط عليها لتثبيت قواعدها في الساحل وهذا ما شاهدناه من زيارة الرئيس الشرع إلى موسكو.
أمّا واشنطن، فهي تمارس صمتاً محسوباً. تركّز على شرق الفرات، وتتعامل مع شمال سوريا بوصفه مجالاً تركياً مؤقّتاً، طالما لا يتقاطع مع مشروعها الكردي.
أوروبا من جانبها تنظر إلى ما تفعله تركيا في حلب بعينٍ براغماتية: إذا كان النفوذ التركي أمراً واقعاً في شمال سوريا، فهي تحاول أن تحقّق مكاسب مقابل سماحها بهذا التمدّد التركي، وتحاول جاهدة الحصول على مكتسبات من تركيا في مناطق أخرى مثل قضية أوكرانيا مثلاً أو تحديد الحدود البحرية قبالة السواحل اليونانية والقبرصية.
اللاعبون الإقليميون الآخرون ليسوا غائبين عن المشهد. تتعامل الدول الخليجية، وخاصةً السعودية والإمارات، مع التجربة التركية في حلب بحذر، محاولةً تمويل مشاريع بديلة صغيرة لا لكسر النفوذ التركي بل لتقليصه.
حتى إسرائيل تتابع ما يجري بقلقٍ خافت، إذ عودة حلب كممرّ ترانزيت تركي نحو العراق والخليج يفتح الباب لتحالفات جديدة لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، لذلك فهي تحاول جاهدة السيطرة على الجنوب السوري وفتح "ممر داوود" لقطع الطريق.
مدينة متعدّدة الطبقات
وسط كل ذلك، تواصل حلب بهدوء فترة تعافيها. لا تُعلن ولاءها الكامل لأيّ طرف، لكنها تعكس مصالحهم جميعاً. هذا ما يجعلها مدينة «متعدّدة الطبقات»، حيث تتعايش الشبكات الأمنية التركية مع مجالس محلية شبه مستقلة، ويختلط العملاء الروس بنظرائهم الأمريكيين، بينما يتعامل المال الخليجي مع الجميع.
ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه المعادلة إلى نوعٍ من العقد الاجتماعي غير المعلَن: الناس يلتزمون بالهدوء مقابل الخدمات، والقوى المحلّية تحافظ على الأمن مقابل الدعم التركي، وأنقرة تُبقي على تمويلها (أو تجعل الآخرين يدفعون) بشرط أن تظلّ حلب صامتة سياسياً.
لا أحد يتحدّث عن هذا العقد، لكنّه يُمارَس يومياً في تفاصيل الحياة. في المخابز والمدارس والمعابر، وفي قرارات البلديات الصغيرة. إنّه نظام «الاستقرار مقابل الطاعة»: نظامٌ لا يقوم على الشرعية القانونية، بل على شرعية الضرورة.
ما بعد الدولة الوطنية
يبدو أنّ حلب قد تحوّلت من مدينة مدمَّرة إلى مختبر سياسي لنظريات ما بعد الدولة الوطنية. فبدل المركزية القديمة التي كانت تفرضها دمشق، نشهد اليوم نموذجاً «هجيناً» يقوم على اللامركزية المشروطة: كلّ منطقة تدير نفسها وفق ميزان القوة الإقليمي الأقرب إليها: في الجنوب، التأثير الإسرائيلي؛ في الشرق، الأمريكي الكردي؛ في الساحل، الروسي؛ وفي الشمال، التركي السوري المحلّي.
تركيا نفسها لا تستعجل إعلان أي ضمّ رسمي لأنّها تدرك أنّ النفوذ الراسخ لا يحتاج إلى اعتراف. يكفي أنّ يتعوّد الناس على الليرة التركية، وأن يتلقّوا تعليمهم بمنهج تركي، وأن يسافروا عبر معابر تُديرها أنقرة.
.
نموذج جديد؟
السؤال الأعمق لا يتعلّق بتركيا وحدها، بل بما تمثّله حلب نفسها. هل نشهد ولادة نموذجٍ جديد من الحكم المحلّي المندمج إقليمياً، أم فصل آخر في تفكّك الدولة السورية؟
ربما يكون الأمران معاً. فبينما تذوب الدولة الأسدية القديمة، تظهر شبكات جديدة أكثر مرونة واستقلالية، تربط الأفراد بأنظمة إقليمية للمال والسلطة.
من دون مركزٍ قوي تستند إليه، تتعلّق حلب بالحياة بكل ما تستطيع.