الرأسمالية والعلاقات العامة
المؤتمرات الاستثمارية وحدها لن تُنعش الاقتصاد السوري
نوفمبر 2025
تسعى دمشق لاستقطاب المستثمرين عبر المؤتمرات والمراسيم ومذكرات التفاهم بمليارات الدولارات. تحوّل الإعمار إلى حملة علاقات عامة هدفها ترسيخ الشرعية واستعادة الثقة بالحكومة. غير أن معظم المشاريع لا تزال افتراضية، تُرسم ملامحها وفق الحسابات السياسية أكثر من المنطق الاقتصادي. ما ينقصها ببساطة هو خطة حقيقية.
أحيا سقوط نظام الأسد الأمل لدى السوريين والمجتمع الدولي في قدرة البلاد على تجاوز آثار الحرب والمضي قدماً بجدّية نحو إعادة الإعمار. وقد سعت الحكومة الجديدة في دمشق إلى البناء على هذا التفاؤل من خلال تنظيم مؤتمرات استثمارية لافتة، وإطلاق إعلانات علنية ضخمة عن اتفاقات إعادة الإعمار تُقدَّر بمليارات الدولارات. غير أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت هذه الوعود ستُترجَم فعلاً إلى مشاريع حقيقية، تُحدث فرقاً ملموساً في حياة الناس، أم أنّها ستبقى حبراً على ورق.
من أين تأتي الأموال
لقد أعلنت الحكومة أنّها لن تعتمد على المساعدات الخارجية أو القروض الدولية، بل على التبرّعات الفردية، والأهم من ذلك، على الاستثمارات المباشرة. ولدعم هذه الإستراتيجية، ركّزت على تحسين بيئة الأعمال وخلق إطار قانوني أكثر جذباً للاستثمار. وفي هذا السياق، أصدرت قانون الاستثمار السوري بموجب المرسوم رقم 114 لعام 2025، لتسهيل دخول رؤوس الأموال الأجنبية، وأعادت تفعيل هيئة الاستثمار السورية، وتعهّدت بتبسيط الإجراءات وتوسيع نطاق الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
وخلال فصل الصيف، وقّعت الحكومة كذلك عشرات الاتفاقيات بلغت قيمتها التقديرية نحو 32 مليار دولار أمريكي. للوهلة الأولى، يبدو هذا الرقم مثيراً للإعجاب؛ غير أنّ بريقه يخفت عند التمعّن في طريقة إبرام هذه الاتفاقيات، وطبيعة المشاريع المقترَحة، وهوية المستثمرين، فضلاً عن مدى تأثير هذه المشاريع المحتمل في حياة السوريين وبنية الدولة الناشئة.
هذه الاتفاقيات بمعظمها ليست عقوداً مُلزِمة، بل مذكّرات تفاهم أو أُطُر تعاون عامة، وُضِعت بغية الإعلان عن نية الاستثمار أكثر مما هي التزامات حقيقية، إذ تهدف إلى إظهار استعداد الطرفين للتعاون، وتُعدّ في الوقت ذاته عرضاً علنياً للثقة بالحكومة، ومصدراً للشرعية السياسية لها. ويُذكِّر هذا النمط من الإعلانات ذات الطابع الدعائي بتجربة المؤتمر الاقتصادي بشرم الشيخ عام 2015 في مصر، حيث جرى الاحتفاء بتعهّدات استثمارية قاربت 92 مليار دولار أمريكي، لكن القليل جداً منها تحوّل فعلياً إلى استثمارات على أرض الواقع.
دروس من الجيران
تركّز مذكّرات التفاهم وأُطُر التعاون العامة في معظمها على مشاريع ضخمة ومرتفعة الكلفة، ذات طابع استعراضي، مثل العقارات ومشروعات الطاقة الكبرى. غير أنّ هذه المشاريع تُولِّد فرص عمل محدودة، ولا تُحسِّن إلّا بشكلٍ ضئيل الخدمات العامة الأساسية، وغالباً ما تؤدّي إلى ارتفاع كبير في فواتير المرافق.
تُظهر مراجعة هويات المستثمرين المشاركين أنّ هذه الاتفاقيات تتشكّل في جوهرها وفقاً للاصطفافات الإقليمية ومساومات النخب، أكثر ممّا تستند إلى الاعتبارات التنموية الحقيقية
وتجارب الدول المجاورة مليئة بالدروس. فقد استقطبت إعادة إعمار لبنان بعد الحرب استثمارات ضخمة، لكنّها تركّزت في قطاعي العقارات والمصارف، تاركةً البنية التحتية وفرص العمل المستدامة من دون معالجة. أمّا العراق، فعلى الرغم من أنّه قد أنفق مليارات الدولارات على قطاع الكهرباء منذ العام 2003، فإنه لا يزال يعاني نقصاً مزمناً في الطاقة. وحتى حين تُنفَّذ المشاريع، فإنّ قيمتها التنموية تعتمد على عوامل مثل الحوكمة الرشيدة ومدى توافقها مع احتياجات المواطنين، لا على عوائد المستثمرين وحدها. وتغفل الاتفاقيات الموقَّعة حتى الآن إلى حدٍّ كبير الأنشطة الإنتاجية ذات القيمة المضافة في قطاعات الصناعة والزراعة. فـأكثر من 90 في المئة من الشركات السورية هي مشاريع صغيرة ومتوسّطة ومتناهية الصغر، ويمكن تعزيز دورها عبر تسهيل حصولها على التمويل والتكنولوجيا والأسواق، وربطها بسلاسل القيمة الإقليمية والدولية.
أمّا المبادرات الصناعية القليلة المطروحة، كإنتاج الإسمنت مثلاً، فيبدو أنّها تستهدف أساساً تلبية احتياجات قطاع العقارات، لا دعم الاقتصاد الإنتاجي الحقيقي. وفي الوقت نفسه، يؤدّي تركّز الاستثمارات في منطقة دمشق إلى تعميق التفاوتات المناطقية، على حساب المناطق التي كانت الأكثر تضرّراً خلال سنوات الحرب.
تُظهر مراجعة هويات المستثمرين المشاركين أنّ هذه الاتفاقيات تتشكّل في جوهرها وفقاً للاصطفافات الإقليمية ومساومات النخب، أكثر ممّا تستند إلى الاعتبارات التنموية الحقيقية. كما أنّ عملية التحقق من أهلية المستثمرين بدت ضعيفة، إذ وقّع عدد من المستثمرين المفترضين مذكّرات تفاهم ضخمة من دون أن يملكوا قدرة مالية مثبتة، أو سجلاً تشغيلياً واضحاً، أو هياكل ملكية شفافة. وغالباً ما مُنِحَت المشاريع من دون مناقصات تنافسية، بينما يبقى الرأي العام في جهل تام بشروط العقود ومدى جدوى هذه المشاريع اقتصادياً وتنموياً.
الحاجة إلى إستراتيجية وطنية
إن الكمّ الكبير من مذكرات التفاهم وأُطُر التعاون الموقَّعة يكشف في جوهره غياب إستراتيجية تنمية وطنية تضع سيادة القانون أولوية لها. فمن شأن هذه الإستراتيجية أن تعزّز الشفافية، وبالتالي ثقة المواطنين والمستثمرين على حدّ سواء، من خلال نشر تفاصيل الاتفاقيات الاستثمارية وإخضاعها لرقابة مستقلّة. كما يفترض أن تتضمّن آليات حوكمة استثمارية لامركزية، وتمكين المؤسّسات الإقليمية من توجيه رأس المال وفق أولويات مهنية واضحة، بما يحدّ من تركّز الثروة بيد النخبة، ويحول دون نشوء طبقة احتكارية جديدة من الرأسماليين المقرّبين من الحكومة.
ومن شأن إعادة توجيه الحوافز نحو القطاعات الإنتاجية، كالأغذية الزراعية والنسيج والصناعات الدوائية، أن يعزّز فرص العمل والصادرات، فيما يسهم تمكين المشاريع الصغيرة والمتوسطة في تحقيق استدامة اقتصادية طويلة الأمد. كما يضمن تحديث قوانين العمل والحماية الاجتماعية أن تعود الاستثمارات بالنفع الحقيقي على القوى العاملة.
من المهم أن تسعى الحكومة إلى جذب المستثمرين، لكن تطوير إستراتيجية فعّالة لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة تُكمّل عملية إعادة بناء الدولة بنفس الأهمية.
هذا التحليل حصري قدّمته منصة «Syrian Ventures Alliance» المتخصّصة في شؤون الاستثمار والتحليل الاقتصادي.