راية «يا زينب» الأخيرة
شيعة سوريا بين التواري والبقاء
نوفمبر 2025
سقوط الأسد ترك شيعة سوريا في مهبّ الريح. في مقام السيدة زينب، تُنزل الرايات الدينية وتُمنع الهواتف. وبعد أن كانت المنطقة المحيطة بالمقام تُعدّ مركز الثقل للمشروع الإيراني، أصبحت اليوم تجسّد واقع طائفةٍ تنكفئ على نفسها، وتتكيف بصمت تحت أنظار نظامٍ سُنّي جديد يراقبها عن كثب.
على مدى عقود، كانت راية ضخمة كُتب عليها «يا زينب» ترفرف فوق القبة الذهبية لمقام السيدة زينب جنوب شرقي دمشق. وفي نيسان/أبريل أُزيلت بصمت؛ فيما يُعدّ ربما أوضح إشارة حتى الآن إلى امتثال الشيعة لحكّام سوريا الجدد من السنّة. ويعكس مصير المقام حال الطائفة الشيعية في البلاد منذ سقوط الأسد: وجودٌ يُتسامح معه، لكنه محكوم بالإذعان لهيمنة النظام الجديد الذي تتزعّمه الغالبية السنّية.
بقايا التعبئة الشيعية
خلال الحرب الأهلية في سوريا، شكّل مقام السيدة زينب ركناً رمزياً أساسياً لتبرير تدخل إيران وحزب الله وحلفاء شيعة آخرين إلى جانب نظام الأسد. فالمقام المكرَّس لابنة الإمام علي، السيدة زينب، التي يُروى أن الأمويين ساقوها أسيرةً من كربلاء إلى دمشق في القرن السابع الميلادي، أصبح رمزاً للثبات والتضحية في الوجدان الشيعي. وكثيراً ما كان حزب الله يصف عناصره الذين يسقطوا بالفرسان أو بشهداء زينب، فيما تحوّل شعار «لن تُسبى زينب مرتين» إلى لازمةٍ تتردّد على جبهات القتال.
كما شكّل المقامُ مصدر دخل حيوي للمنطقة. فقد أسهم الحُجاج الشيعة القادمون من مختلف أنحاء المنطقة في دعم اقتصادٍ سياحي متواضع، فازدحمت بهم الفنادق والمتاجر المحيطة. وكانت تُنظَّم رحلاتٌ جماعية من لبنان والعراق وإيران. ومع تزايد تدفّق الحجاج والزوّار الشيعة الأجانب، تصاعدت التكهنات بأن طهران والنظام يسعيان إلى هندسة تغييرٍ ديمغرافي عبر توطين شيعةٍ من الخارج في العاصمة ومحيطها.
مع ذلك، انهارت فكرة «الدفاع عن المقام» بالسرعة نفسها التي انهار بها النظام. فقد جعل سقوط الأسد أواخر العام الماضي مستقبلَ المقام غامضاً في ظلّ نزوع إدارة الرئيس أحمد الشرع إلى خطاب مناهض للشيعة. غير أن المخاوف من تدمير المقام بدت في النهاية مبالغاً فيها، وهي نتيجةٌ يعزوها بعض الشيعة إلى الحماية الإلهية. وكما قال عراقي مقيم في سوريا كان قد قاتل إلى جانب نظام الأسد: «إنّ السيّدة زينب -عليها السلام- محفوظةٌ بربِّ العالمين».
موجودون ولكن..
اليوم يعكس وضعُ المقام، في جوانب كثيرة، موقعَ الطائفة الشيعية المقيَّد داخل سوريا. فالمقام ما زال مفتوحاً وتتولّى حمايته عناصر أمنٍ حكوميين، ليس بينهم شيعي واحد، فيما تؤكد الحكومة أن إحباطها لهجمات تنظيم داعش يُعدّ دليلاً على التزامها حمايةَ مواقع الأقليات الدينية. وعلى أحد الجدران الخارجية كُتِب شعار: «سوريا وطنٌ للجميع». كما عقد الرئيس أحمد الشرع اجتماعاتٍ مع ممثلين عن الطائفة الشيعية في البلاد.
يُظهر التمعّن في المقام ومحيطه امتثال موقع الشيعة في ظلّ النظام الجديد. فباستثناء المقبرة التي تضمّ قبور بعض «الشهداء» المزيّنة بشعارات حزب الله، اختفت كلُّ آثار النفوذ الإيراني وحزب الله التي كانت بارزةً في المنطقة، كما غاب الزوّار الأجانب إلى حدٍّ كبير، وحتى في المواسم والمناسبات الدينية الشيعية لم تعد الحشودُ الغفيرة تتدافع لملامسة القبر المنسوب إلى السيدة زينب. تراجعت التبرّعات، وخَلت محالّ الهدايا، ويشتكي العاملون في المقام من تأخّر الرواتب أو عدم كفايتها. أمّا فنادق الحجاج، فظلّت مغلقة، في ظلّ تسرّب شائعاتٍ محلية تفيد بأن بعضها يُستخدَم لإيواء بدوٍ نازحين من السويداء.
وقد قال أحد العاملين في «إدارة مقام السيدة زينب» التي تولّاها طويلاً آل مرتضى، -وهي أسرةٌ شيعية بارزة محلياً- أن راية «يا زينب» أُزيلت بعدما صوّرها أحد الزوار بهاتفه ونشر المقطع على وسائل التواصل الاجتماعي، متسائلاً: كيف يُسمح ببقاء هذه الراية وهي التي قاتلت تحتها ميليشياتٌ شيعية فصائلَ سنية؟ وقد أدّى الجدلُ إلى عقد اجتماعٍ عاجل ضمّ إدارة المقام وعدداً من مشايخ من الطائفة الشيعية ومسؤولين أمنيين محلّيين، وانتهى إلى الاتفاق على إزالة الراية درءاً لـلفتنة الطائفية.
خشي المسؤولون أن تؤدّي مقاطع تلاوة الأدعية والشعائر الشيعية، التي تتضمّن عبارات لعنٍ للأمويين، إلى إثارة غضبٍ سنّي
المنطقُ ذاته يقف وراء الحظر الذي فُرض مؤخراً على إدخال الهواتف المحمولة إلى داخل المقام. فقد خشي المسؤولون أن تؤدّي مقاطع تلاوة الأدعية والشعائر الشيعية، التي تتضمّن عبارات لعنٍ للأمويين، إلى إثارة غضبٍ سنّي، ولا سيما في مناخٍ سياسي تُعاد فيه صياغة الإرث الأموي كرمز لنهضةٍ سنّية.
ليس جميعُ أبناء الطائفة الشيعية راضين عن إدارة المقام الراهنة. فبعضُ المصلّين والأهالي يوجّهون اتهاماتٍ بسوء الإدارة والفساد. وفي أواخر يناير، وجّهت لجنةُ الإشراف على المقام، برئاسة أفرادٍ من آل مرتضى، رسالةً إلى الرئيس أحمد الشرع تشكو فيها من أنّ «مجموعةً من أصحاب السمعة السيئة والسوابق الجنائية» استمالت أتباعاً عبر وعودٍ بالتوظيف في المقام، ثم افتعلت مشادّةً مع إدارة المقام في محاولةٍ لـ«إثارة فتنة داخلية في الطائفة». وقد جاء الخطابُ ليِّن النبرة، ومشيداً بتدخّل عناصر الأمن العام الذين أعادوا فرض النظام. وقال جعفر قاسم، مديرٌ في إدارة المقام: «هناك تعاونٌ جيّد من قِبل الأمن العام لمنع أيّ تعدٍّ على المقام».
في مطلع كانون الثاني/يناير، أصدرَت وزارةُ الأوقاف في الحكومة الجديدة قراراً يقضي بوضع المقام تحت إشراف الدولة المباشر، لكن القرار سُحِب سريعاً، على الأرجح كتنازلٍ لآل مرتضى مقابل استمرار دعمها لحكومة الشرع. وفي المقابل، يحظى آل مرتضى بدعمٍ من الشيخ الشيعي أدهم الخطيب، وهو سنّيٌّ اعتنق المذهب الشيعي ويعمل كحلقة وصل أساسية بين الشيعة في سوريا ودمشق. ويُنظر إلى الخطيب في بعض الأوساط على أنه يفتقر إلى الأقدمية والهيبة الدينية اللازمة لقيادة شيعة البلاد.
أقلية بلا رعاة
لم يقتصر انخفاض أعداد الزائرين الأجانب للمقام على إحداث ضائقة اقتصادية عند الطائفة، بل امتدّ أثره إلى مشاعر التظلّم والمرارة التي لا تتوجه حصراً نحو الحكّام الجدد في دمشق. فالعامل نفسه الذي شرح واقعة إزالة الراية أشار أيضاً إلى أن شيعة سوريا تُرِكوا من دون سندٍ من أقرانهم في الخارج. الكثيرون من أبناء الطائفة الشيعية، ويُقدَّر عددهم بمئات الآلاف من دون أرقام موثوقة، لا سيما من محافظة حمص، تمكّنوا من الفرار إلى لبنان، فيما لم تبذل إيران وحزب الله وسائر الحلفاء الشيعة الأجانب للنظام السابق أي جهد لتنظيم عمليات إجلاء واسعة أو إعادة توطين. وكثيرون ممن عملوا إلى جانب النظام، من ضمنهم من عمل مع إيران وحزب الله، تُرِكوا عملياً ليواجهوا مصيرهم بمفردهم.
محرومين من أي سند خارجي وموزّعين على تجمّعاتٍ معزولة، يجد شيعةُ سوريا أنفسهم اليوم مضطرّين إلى التكيّف. وعلى خلاف الدروز والعلويين، لا يستندون إلى قاعدة جغرافية متّصلة ولا إلى خطاب ينادي بالحكم الذاتي؛ فالحديث عن «منطقة شيعية» أو «دولة شيعية» غائب تماماً. معظمهم آثر خفض الرؤوس والابتعاد عن الأضواء. وبعضهم الآخر تبرّأ من النظام السابق وأظهر دعماً شكلياً للحكومة الجديدة بالمشاركة في تجمّعاتٍ صغيرة تؤيّد إعادة بسط سلطة الدولة، فيما لم يتردّد آخرون ممّن لم يكونوا على ارتباط وثيق بإيران أصلاً في انتقادها علناً. أمّا المتمسّكون بولائهم للمرشد الإيراني مرجعيةً دينية، فيفضّلون الصمت ويبحثون بهدوء عن سُبلٍ للهجرة.
لكنّ الخوف ما زال يخيّم بثقله. فمنذ سقوط النظام، سُجّلت عملياتُ اغتيال طالت أفراداً شيعة في أنحاء البلاد، وعلى الرغم من أنّ جميع الحوادث ليست بدوافع طائفية بالضرورة، فإنّ كثيرين يرونَها كذلك. ومع تراجع النفوذ الإيراني في سوريا ما بعد الأسد، خسر الشيعةُ حاميهم الخارجي الوحيد ودرعهم السياسي، وباتوا يخشون انتقاماتٍ على جرائمَ ماضية ارتُكبت تحت راية «يا زينب».
الخلاصة: في سوريا الجديدة، لم يبقَ لشيعتها سوى فضيلة التواري والبقاء على الوجود.