إيذاناً ببداية عهدٍ جديد
الصحافة الرصينة قادرةٌ على استعادة الحقيقة في سوريا ما بعد الأسد
نوفمبر 2025
انفتح من جديد في سوريا فضاء هشّ للتعبير العام وبات السوريون قادرين مرة أخرى على الكتابة والنقاش في العلن من دون خوف. غير أن ستة عقود من القمع والرقابة أضعفت قدرة المجتمع على محاورة نفسه. الصحافة الرصينة يمكن أن تُعيد إطلاق هذا الحوار، لكنها لن تنجح إلا إذا وُهِبَت الحرية التي تحتاجها.
قليلون من السوريين يدركون أنّ بلادهم كانت يوماً ما تزهو بإحدى أكثر الساحات الصحفية حيوية في العالم العربي. ففي الحقبة الواقعة بين الحربين العالميتين وما بعد الاستقلال، وحتى مطلع الستينيات، كانت سوريا تعجّ بمئات الصحف والمجلّات التي عبّرت عن مختلف التوجهات السياسية والتيارات الفكرية. وتشير بعض التقديرات إلى أنّ أكثر من مئتي مطبوعة كانت تصدر وتُتداول في أنحاء البلاد، من جريدة القبس في حلب إلى الأيام في دمشق. وقد عكست هذه الصحف مجتمعاً نابضاً بالحوار العام والفضول الفكري، وجرعة وافرة من الدعابة السوداء. ولبرهة من الزمن، استطاع السوريون أن يقرأوا ويناقشوا ويكتبوا بحرّية نادرة في المنطقة. كانت تلك حقبةً ذهبيةً للكلمة المكتوبة في سوريا.
انتهى ذلك العصر فجأة في آذار/مارس عام 1963، عندما استولى حزب البعث على السلطة وشكّل لجاناً لإدارة شؤون البلاد. ولم تمضِ فترة طويلة على الانقلاب حتى نشرت الأسبوعية الساخرة المُضحك المُبكي افتتاحية في صفحتها الأولى حملت عنواناً لافتاً: «لا بدّ من معارضةٍ تضيء الطريق أمام الحاكمين».
وجاء في الافتتاحية:
كنا نأمل أن تتشكّل، إلى جانب هذه اللجان، معارضةٌ للحكم، تناقشه وتراقبه، وتعبّر له أيضاً عن آرائها وأفكارها وخططها. فالأمر أثقل من أن يقوم به حزب واحد أو يتحمّله فرد بمفرده. لقد غدت المعارضة النزيهة والمستقلّة اليوم من الضرورات الأساسية للحياة السياسية.
وخلال أسابيع قليلة، أُغلقت الصحيفة. وقد تبيّن أنّ التحذير الذي أطلقته كان في محلّه تماماً: أُخمِدت الأصوات الحرة، جُرّم الاختلاف، وتحوّلت الصحافة إلى جوقة لا تُجيد سوى المديح. على مدى ستة عقود، عاش السوريون في ظلال طويلة لتلك الافتتاحية.
مساحة تستحق الدفاع عنها
تقف سوريا اليوم مجدّداً على أعتاب «عصر جديد» آخر. فقد أتاح سقوط نظام الأسد مساحةً –وإن كانت هشة وغير واضحة المعالم– لحرية التعبير في الفضاء العام. وستكون عودة الصحافة إلى الحياة أحد أبرز المؤشرات على ما إذا كان هذا العصر الجديد سيتجذّر فعلاً. فصحة المجتمع السياسية لا تُقاس بعدد مؤسّساته فحسب، بل أيضاً بنوعية الحوار الدائر فيه. إذا كان للمواطنين السوريين أن يصبحوا من جديد فاعلين مستقلين ومسؤولين، فسوف يحتاجون إلى صحفيين ومحررين قادرين على وصف مستقبلهم وهو يتكشف، بموضوعية ودقة ومن دون خوف.
قد يظلّ كثير من السوريين اليوم يقدّمون الإستقرار على مجمل الحريات السياسية. وذلك أمرٌ مفهوم بعد سنوات من الحرب والحرمان. لكن ثمّة فرقاً بين تقييدٍ سياسي نابعٍ من الشعور بالمسؤولية، وبين خنقٍ للحريات المدنية. فالتحرّر من التعذيب والاعتقال التعسفيّ أمرٌ أساسيّ لا يُمسّ؛ وكذلك الحرية في الكلام والكتابة والنقاش. فهذه ليست ترفاً ديمقراطياً، بل حقوقاً إنسانيةً أصيلة. والحق في متابعة التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجارية، والإخبار عنها بصدق ودقّة، والحصول على المعلومات حولها، هو حقّ لكل سوري، لا امتيازٌ لفئة محدودة تملك العلاقات والنفوذ.
يمكن للصحافة أن تصبح أداةً لإعادة الإعمار الوطني، فتساعد المجتمع على اكتشاف ذاته من جديد بعد سنوات من التشويه والخوف
للأسف، تبدو الساحة الإعلامية التي نشأت حتى الآن صاخبة ومشوَّشة. فبعد انحسار الصحافة الرسمية ذات الطابع السوفياتي، اندفعت وسائل التواصل الاجتماعي لملء الفراغ: جيوشٌ من الحسابات المجهولة، وتجارُ نظريات المؤامرة، ومن يدَّعون بأنهم «مؤثّرون»، يتنافسون جميعاً على جذب الانتباه. خوارزميات الغضب تضخّم الاستفزاز، والنتيجة فوضى من الضجيج الفارغ بلا معنى. هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها في العالم، لكن تكلفتها في سوريا أكبر، لأنها تهدّد بإطفاء المساحة الصغيرة للحقيقة التي بالكاد بدأت تُفتح من جديد.
التحدّي اليوم لا يتمثّل في الدفاع عن حرية التعبير فحسب، بل في رعاية صحافةٍ رفيعة المستوى. أي صحافةٍ تكتب لا من أجل الاستعراض، بل من أجل الفهم، وتنطق بما هو صادق لا بما هو آمن ومريح. في أفضل حالاتها، يمكن للصحافة أن تصبح أداةً لإعادة الإعمار الوطني، فتساعد المجتمع على اكتشاف ذاته من جديد بعد سنوات من التشويه والخوف، وتبني وعياً جماعياً تقوم عليه المصالحة المجتمعية والاستقرار. قد تخطئ الصحافة الرصينة أحياناً، لكن أخطاءها تكون نتاجاً للإخلاص لا للتآمر. إنّ استعادة الحق في ارتكاب أخطاء بحسن نية هي استعادةٌ لحريةٍ حُرم منها السوريون طويلاً.
إذا كانت سنوات ما بين الحربين وما بعد الاستقلال قد شكّلت العصر الذهبي الأول للصحافة السورية، فقد يحمل عقد العشرينيات من هذا القرن بشائر عصرٍ ذهبيٍّ ثانٍ. الأدوات تغيّرت، والجمهور أصبح عالمياً، لكن المهمة بقيت كما هي: أن نشهد، وأن نحاسب، وأن نذكّر السوريين بأنّ لآرائهم قيمة. ونحن، في سوريا المتجدّدة، نسعى لأن نكون جزءاً من هذا التجديد.