عصا قيصر السحريّة

20. ديسمبر 2025

هل يفتح رفع قانون قيصر الباب أمام التعافي الاقتصادي في سوريا، أم يكشف عمق تآكلها البنيوي؟ فمع تخفيف العقوبات، ما تزال منظومات الفساد المتجذّرة، وضعف المؤسسات، والنظام المصرفي المترهل تشكّل عقبات كبيرة أمام أي تعافٍ حقيقي.

بعد سلسلة من الاستثناءات والتراخيص والتجميد الجزئي لبعض بنود قانون قيصر منذ سقوط نظام الأسد، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على إلغاء القانون ضمن حزمة قانون الدفاع، بعد مصادقة الكونغرس الأمريكي بغرفتيه النواب والشيوخ على الحزمة.

وبمعزل عمّا يقال عن الرقابة التي ستُفرض على أداء الحكومة السورية لاحقاً لتتجنب الدخول مرة أخرى في دوامة العقوبات، فإنه من المهم طرح السؤال الآتي:

هل يعني رفع قانون قيصر أن عجلة التعافي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في سوريا ستنطلق بعد عام من التحسن المتفاوت، أم أنه سيكشف عن فساد منظومة الحوكمة وهشاشة مؤسسات الدولة والخلل الذاتي في النظام المصرفي، ويُظهر بجلاء خطورة انعدام البيئة التشريعية وعدم استقرار المناخ الأمني والسياسي؟

خمس إشكالات أساسية

يمكن تناول إشكالات أساسية خمسة تعيق انطلاق تلك العجلة، فعلى المستوى الاقتصادي يزداد ضعف ثقة المستثمرين بالبيئة القانونية والحوكمية، فلا تزال القوانين السارية منذ عهد النظام البائد تكبّل حركية الاستثمار فيما لا يزال الاستحقاق التشريعي معطلاً. كما يعاني القضاء من مشكلات بنيوية ووظيفية تجعله قاصراً عن ضمان حقوق المستثمرين، في الوقت الذي يستمر تفشي المحسوبيات في مؤسسات الدولة وغياب الحوكمة الرشيدة وعدم تكافؤ الفرص الاستثمارية، فضلاً عن عدم قدرة الدولة على حماية العقود والملكيّات.

كما يعاني المستثمرون من غياب الرؤية القطاعية للحكومة خلال المرحلة الانتقالية، والتي تمثل المشكلة الثانية، وتعني ترتيب أولوية القطاعات التي ينبغي التركيز عليها (الطاقة، الصحة، البنوك، الطرق،...) حيث لا يستطيع المستثمرون تقييم جدوى الاستثمار، فيبقى رأس المال متردداً، و القطاعات الإنتاجية مشلولة. فلم يُحدّد بعد حجم التمويل اللازم لكل منها، كما لا توجد إدارة واضحة للعمل عليها بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وهو الأمر الذي يتسبب بهدر موارد الدولة الشحيحة أصلاً. وفي الوقت الذي تداعى عشرات كبار المستثمرين إلى سوريا في اليوم الثاني لسقوط النظام رغم وجود العقوبات فإننا نشهد انسحاباً معاكساً للكثير منهم رغم التوجه الدولي لرفع تلك العقوبات وأخيراً إلغاء قانون قيصر.

أما المشكلة الثالثة فهي استمرار الاعتماد على الاقتصاد الريعي على حساب وضع خطط لحماية الصناعة الوطنية (إيرادات الخزينة من الناتج المحلي نادرة وتعتمد الدولة على المنح بشكل أساسي لدفع رواتب الموظفين).  كما لم تشكّل هيئة لدعم المشاريع الصغيرة وتطوير سلاسل الإنتاج المحلية والتركيز على اقتصاد المعرفة، وهو الأمر الذي يحول دون حماية الطبقة الوسطى ويحول دون تنمية مستدامة. وقد لوحظ إغلاق عدد من المنشآت الصناعية مع نهاية العام الأول للتحرير فيما تبقى الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة عرضة للابتلاع دون وجود سياسات ضبط حكومي للسوق ولحركة الاستيراد.

 فيما تتمثل المشكلة الرابعة في هشاشة النظام المصرفي وضعف الثقة الائتمانية به، فلا يزال غير قادراً على الولوج للأسواق العالمية ولا يمتلك تصنيف ائتماني موثوق، ويعجز عن تمويل المشاريع الكبرى وبذلك يصبح الاقتصاد بلا أدوات تمويل في الوقت الذي يصر فيه الخطاب الحكومي على اتخاذ موقف متصلب من الاقتراض دون وجود رؤية واضحة وتفصيلية لمصادر التمويل البديل.

لا تنفك المشكلات السابقة عن المشكلات الاجتماعية والسياسية فتؤثر عليها وتتأثر بها، فلا يمكن للاقتصاد أن يتعافى في ظل مجتمع ممزق أو دولة منقسمة أو خوف متبادل بين مكونات المجتمع. ولهذا، فإن مشكلة غياب السلم الأهلي وتفاقم المشكلات الأمنية في الساحل والسويداء هي أهم معيقات التعافي، كما ينظر الكثير من أصحاب المصلحة إلى عدم فعالية هيئة السلم الأهلي الذي لا يمكن أن يكون مساراً موازياً للتعافي، بل هو شرطه الأول، وهو يتحقق عبر تفعيل العدالة الانتقالية بالشراكة بين الدولة والمجتمع. ويجمع الكثير على أن مسار الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية مازال متعثراً، ولا يلبي تطلعات الضحايا ولا يَحول دون انفلات دائرة الثأر المتبادل. وقبل هذا كلّه، سيسهم تحقيق إصلاح سياسي يضمن التعددية والمشاركة ويحقق فصل السلطات وحرية العمل السياسي والإعلامي في زيادة الثقة بالحكومة السورية وبنزاهة وشفافية مؤسساتها، كما سيحقق تفعيل الحوار الوطني واستدامته إعادة الثقة بين الدولة والمواطن.

رفع عقوبات قيصر لا تكفي

إن رفع قانون قيصر يمثل بلا شك محطة مفصلية في مسار سوريا الاقتصادي والسياسي، لكنه ليس العصا السحرية التي ستقود تلقائياً إلى التعافي. فالتجربة الدولية تؤكد أن رفع العقوبات قد يفتح الباب، لكنه لا يعبّد الطريق ما لم يُستثمر في إصلاح البيئة المؤسسية وبناء الثقة مع المستثمرين والمجتمع على حدّ سواء. وفي ظل استمرار المشكلات البنيوية في الحوكمة والبيئة التشريعية، وضعف النظام المصرفي، وتراجع الرؤية القطاعية، يبقى احتمال تعافي الاقتصاد هشّاً ومهدداً بالانتكاس.

كما أن غياب السلم الأهلي وتفاقم الانقسامات المجتمعية يضعان سقفاً منخفضاً لأي جهود اقتصادية، إذ لا يمكن لمسار التعافي أن يتحرك دون عدالة انتقالية فعّالة تعيد الاعتبار للضحايا وتمنع دوامات الانتقام، ولا دون إصلاح سياسي يوسع المشاركة ويضمن الشفافية والمساءلة.

إن التعافي في سوريا لن يكون نتاج رفع العقوبات فقط، بل هو ثمرة إرادة سياسية للإصلاح الجذري، وشراكة صادقة بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وإعادة بناء العقد الاجتماعي على أسس الحرية والعدالة والحوكمة الرشيدة. عندها فقط يمكن أن تصبح لحظة رفع عقوبات قيصر بداية لمسار تعافٍ حقيقي ومستدام.

العودة إلى الأعلى
Cover image

منير الفقير

ناشط حقوقي وسياسي سوري

اشترك ليصلك آخر أعداد مجلة سوريا المتجدّدة إلى بريدك الإلكتروني.

* يشير إلى الحقول المطلوبة
العربية