اليسار السوري: من «الوفاة المفاجئة» إلى «القيامة»!
13. ديسمبر 2025
بينما تعلن الأحزاب الشيوعية السورية القديمة عن «الوفاة» و«المخاض» وحتّى «القيامة»، فإنّ عليها أولاً أن تواجه إرثها المتصدّع.
تأسس أول حزب شيوعي في سوريا عام 1924، تحت اسم «حزب الشعب»، ليأخذ بعدها اسم «الحزب الشيوعي في سوريا ولبنان»، عام 1925، وليصبح «الحزب الشيوعي السوري – فرع الانترناسيونال»، عام 1928، بعد قبول الأممية الشيوعية – الكومنترن عضويته.
بانتسابه لذلك الحزب، سيلعب شخص واحد، هو خالد قوطرش بكداش، دوراً كبيراً في مجمل تاريخ الحزب اللاحق الذي تزعمه لمدة 58 عاماً، لتخلفه في زعامة الحزب زوجته وصال (1995 -2010)، ثم ابنهما عمار (2010-2025).
الخمسينيات الذهبية
ترك بكداش، الدمشقي الكردي المولود عام 1912، والطالب في كلية الحقوق، حزب «الكتلة الوطنية» عام 1930، ونجح خلال 3 سنوات في الصعود إلى هيئة سكرتارية الحزب الشيوعي، ليسافر بعدها لحضور مؤتمر عام 1935 للأحزاب الشيوعية في موسكو، وليلتحق بـ«الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق»، وليعود بعدها إلى سوريا عام 1937، ليعيّن، أميناً عاماً للحزب حتى وفاته عام 1995.
بتأثير من انتصارات الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، ثم مع صعود ظاهرة جمال عبد الناصر، بدأ اليسار يتصدّر الساحة السياسية السورية في الخمسينات. وكان فوز بكداش، في انتخابات برلمان 1954، وتعيين الشيوعي عفيف بزري، رئيساً لأركان الجيش السوري (1957-1959)، إشارتان إلى هذا الصعود، تزامنتا مع نمو للحزب في المدن، وازدياد شعبيته لدى طلاب الجامعات والثانويات من العائلات الثرية بين المسلمين السنة، والعمال، وأبناء الأقليات الدينية «المسيحيون»، والإثنية «الشركس والكرد».
رغم تعزز الاتجاه نحو الماركسية عربياً بعد هزيمة عام 1967، فإن مواقف الحزب تحت قيادة بكداش من القضايا القومية والوطنية الشائكة (مثل تأييد الاعتراف السوفييتي بإسرائيل، ومعارضة الوحدة مع مصر، وتجميد الحراك الديمقراطي في الحزب 25 عاماً) انفجرت في مؤتمر 1970 عبر انتخاب لجنة مركزية ومكتب سياسي لم يكن بكداش يملك الأكثرية فيهما.
انشقاقات متتالية
تبع ذلك انشقاق كبير في الحزب عام 1972، وانضمام قرابة ثلثي أعضائه، وعلى رأسهم رياض الترك وقياديين آخرين، إلى الجسم الجديد: «الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي». سيتبنى الحزب الجديد الديمقراطية، وسيعتمد برنامجاً يدعو لدستور علماني ولخضوع السلطات التنفيذية للتشريعية وللانتخابات الحرة المباشرة ولإبعاد الجيش عن السياسة، وستؤدي مواقفه المناهضة لنظام حافظ الأسد إلى حملات أمنية متتالية تزج بمئات الكوادر والأعضاء في السجون. وفي العام 2003، سيتخلى «المكتب السياسي» عن العقيدة الماركسية وعن اسمه ليصبح حزب «الشعب الديمقراطي»، وسيشارك لاحقاً في الثورة المفتوحة على نظام الأسد بعد عام 2011.
كان جناح بكداش، في المقابل، يزداد التصاقاً وتماهياً مع السلطة، ويتعرّض لانشقاقات متتالية كان أهمها انشقاق كتلة يوسف فيصل عام 1986، وآخرها انشقاق جرى عام 2014 وقاده قدري جميل (زوج سلام بكداش، ابنة الأمناء العامين: خالد ووصال، ثم طليقها) ليؤسس حزب «الإرادة الشعبية» ويقود ما سمّي «منصة موسكو».
عالم كامل يحتضر
تحت صورة زعيمهم التاريخي، خالد بكداش، وشعار «يا عمّال العالم اتحدوا»، نشر الموقع الالكتروني للحزب الشيوعي السوري خبر وفاة أمينه العام عمار خالد بكداش، في أثينا في 12 تموز/ يوليو الماضي.
قال الموقع إن بكداش سيوارى الثرى في سفح جبل قاسيون «بعد أن تنقشع الغيمة السوداء عن سماء الوطن». في المقابل تحدث الحزب الشيوعي اليوناني في بيان عن «الوفاة المفاجئة» لبكداش «بعد أن أصبح هدفا للجهاديين الذين بدأوا حملة اضطهاد ومجازر بحق المعارضين السياسيين والأقليات العرقية والدينية».
عبر وصفها بـ«الوفاة المفاجئة»، أضفى بيان «الشيوعي اليوناني» طابعاً درامياً على رحيل بكداش (من مواليد 1954)، بشكل يُفهَم منه أن هذه «المفاجأة» حصلت نتيجة لـ«المطاردة» المفترضة، ولكن مع ترك باب للتراجع بالقول إن بكداش «وجد نفسه وعائلته في أثينا» وهي جملة تقول عملياً إنه لم يفرّ إلى اليونان ولم يتعرّض لمطاردة أجبرته على الهرب.
يقوم بيان لاحق للحزب الشيوعي السوري (آذار/ مارس 2025) بهجوم عنيف على السلطات السورية الجديدة يصفها بـ«القوى الظلامية العميلة»، ويتهمها بإقامة «نظام حكم استبدادي»، ويدافع عن الهجمات التي جرت في مناطق الساحل السوري على قوات الأمن العام باعتبارها «رداً على فعل جائر»، مع إنكار علاقتها بنظام الأسد.
قيامة يسارية؟
في خطوة تقوّض، عملياً، المشهد الذي رسمه البيانان الشيوعيان في اليونان وسوريا عن الحكومة الجديدة في دمشق، أصدرت مجموعة من «رفاق الحالة التنظيمية القائمة وأبناء التجربة التاريخية» في حزب العمل الشيوعي في سوريا بياناً في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، وردت فيه عبارة «قيامة» الحزب. بهذا المجاز المختار من الدين، بدا أن المجموعة تقرّ بأن حزبها السابق قد مات، وبأن المجتمعين (الذين عددهم، بالمناسبة، هو 12 شخصاً - بعدد حواريي المسيح)، سيعملون على بعثه من جديد.
في المقابل، اعتبر بيان لحزب «الشعب الديمقراطي السوري»، صدر بعد يوم من سقوط نظام الأسد، أن البلاد «دخلت مخاضاً جديداً»، وفي بيان لاحق تحدث عن محاولات لضرب السلم الأهلي «للحؤول دون ولادة سوريا الجديدة». استخدمت افتتاحية عدد حزيران / يونيو من جريدة «المسار»، الصادرة عن الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، التعبير نفسه الذي استخدمه الحزب الذي انشقّ عنه وذلك تحت عنوان: «في انتظار السلم والعدالة: نصف عام على المخاض الجديد».
من «الوفاة المفاجئة» إلى «المخاض» فـ«القيامة»، لخّصت اتجاهات شيوعية سورية، بشكل مجازيّ ورمزيّ، مواقعها من الحدث الهائل الذي جرى صباح يوم الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.
الأغلب أن وصول المخاض إلى ولادة/انبعاث جديدين، يستلهمان النجاحات التاريخية السابقة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، يتوقف على قدرات الأحزاب السياسية والتيارات المدنية السورية عموماً، على تطوير ممكنات النضال السلمي المنفتحة في البلاد، كما على قدرات اليساريين، الذين حاولوا، على مدار عقود، تكييف أثقال الأيديولوجيا، مع شروط المجتمع السوري، التاريخية والثقافية والسياسية. وفيما تحطّم بعضهم إلى أشلاء تنتظر القيامة لالتئامها، نجح بعضهم الآخر في قانون البقاء للأفضل، بكلفة باهظة لم تكن أقل من إرسال ماركس إلى المشرحة!