عام بعد التحرير: تحسن شكلي وتحديات عميقة
18. ديسمبر 2025
لم يكن إسقاط نظام الأسد نهاية المعاناة كما حلم السوريون، بل بداية مواجهة موجعة مع واقع أكثر قسوة. عُدتُ إلى مدينتي معرة النعمان جنوبي إدلب أحمل وهم العودة، فوجدت منزلي مهدّماً، والفرح مشوباً بحزن ثقيل، وكأن البلاد تقول للعائدين إن سقوط النظام لم يسقط الخراب. بعد عام على ذلك التحوّل المفصلي، لا تزال سوريا غارقة في دمار واسع، وخدمات شبه معدومة، واحتياجات إنسانية وصحية واقتصادية صعبة، ما يكشف فجوة صادمة بين حلم التحرر وواقع بلد منهك.
تحسّن طفيف في الجانب الأمني
يُعدّ التحسن الأمني أحد أبرز التحولات التي يتحدث عنها السكان، فاختفاء الحواجز العسكرية والمربعات الأمنية بدّل شكل المدن، مثل دمشق واللاذقية وطرطوس وحمص، فخلال حكم نظام الأسد، لم يكن التحرك بين مدينة وأخرى مجرد رحلة داخلية عادية، بل سلسلة طويلة من نقاط التفتيش التي تحوّلت إلى مصدر دخل للضباط والمسؤولين السابقين. كما أعاد توقف العمليات العسكرية وغياب القصف للسكان جزءاً من الشعور بالأمان، حيث انخفضت معدلات الاعتقال التعسفي، وبدأ الناس يستعيدون إيقاع حياتهم اليومية، من العودة للعمل إلى فتح المدارس.
لكن هذا التحسن بقي متفاوتاً بين منطقة وأخرى، عدا عن أن مسار العدالة الانتقالية لم يصل بعد إلى هدفه المفترض في محاسبة المتورطين مع النظام السابق. إضافة إلى أن الخطوات نحو المصالحة الاجتماعية والسلم الأهلي لم تبدأ فعلياً، فالاحتقان في الشارع السوري كبير، وتغذيه يوماً بعد يوم جهات ذات مصلحة بتقسيم البلاد، فيما لا تزال الذخائر غير المنفجرة تهدد الأرواح، بالرغم من جهود الفرق المختصة التي تعمل على البحث والإزالة.
الاقتصاد ينهض ببطء
اقتصادياً، شهد العام الأول خطوات خجولة نحو إعادة الإعمار، وتم فتح طرق رئيسية بين المحافظات، مع عودة بعض المنشآت الصغيرة للعمل، ورغم التحديات نجحت الحكومة الانتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع في توفير السلع المختلفة في الأسواق المتعطشة، واختفت طوابير الذل التي كانت تمتد لعشرات الأمتار أمام أفران الخبز أو من أجل كيلو أرز وسكر وزيت، وتوقف ركض المواطن خلف أسطوانة الغاز أو ليترات وقود.
جعل الرئيس أحمد الشرع من إحياء الاقتصاد ركناً أساسياً في خريطة طريقه، فخفض الضرائب على الواردات، وأعلن زيادة بنسبة 200 في المئة لرواتب الموظفين الحكوميين، وسعى إلى جذب المستثمرين. وعلى الرغم من ذلك بقيت تكاليف المعيشة تفوق قدرة غالبية الأسر، إذ يعاني غالبية السوريين من الفقر، يرافق ذلك ارتفاع نسبة البطالة وارتفاع الأسعار، مما أدى إلى انهيار القدرة الشرائية للمواطن السوري.
التعليم والصحة.. تعافي هش
يعاني القطاع الصحي في سوريا أزمة حادة تهدد حياة المرضى يومياً، بسبب نقص المستلزمات الطبية، وضعف البنية التحتية، وارتفاع تكلفة العلاج في القطاع الخاص، فسنوات الحرب في البلاد دمرت مقدّرات هذا القطاع ولكنه يحاول التمسك بالحياة رغم نقص الكوادر البشرية والمستلزمات الطبية، حيث تسعى الحكومة السورية إلى ترميم النقص في ملف الصحة عبر تعاقدات مع منظمات ومؤسسات عالمية، وإصلاح مراكز طبية وإطلاق حزم مشاريع لدعم القطاع.
ولكن رغم إعلان وزارة الصحة عن اتخاذ جملة قرارات ووعود بإعادة تأهيل الأقسام الحيوية، وتحسين التوريد الدوائي، وزيادة خطوط الدعم للمستشفيات، فإن النتائج بقيت محدودة، وسط تراجع التمويل الدولي، وانهيار البنى التحتية، واستمرار موجات الهجرة الطبية.
أما قطاع التعليم فقد تركت الحرب الطويلة أثراً كبيراً عليه، بسبب انهيار البنية التحتية للمدارس، وإغلاق المدارس في عدد من المناطق، ودمار بعضها الآخر. وبحسب تقرير لفريق «منسقو استجابة سوريا» المختص بالإحصاء في سوريا، يوجد 8000 مدرسة مدمرة في سوريا، منها 7400 مدرسة لا تزال مغلقة أو خارج الخدمة، و2.3 مليون طفل سوري لا يرتادون المدارس.
النزوح مأساة مستمرة
اجتماعياً كان النزوح القسري من بين الجروح العميقة التي خلّفتها حرب الأسد على شعبه، لذلك فإن العودة ضرورية لضمان الاستقرار وطي صفحة من معاناة دامت طويلاً. وبالفعل عاد جزء من اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم، وبدأوا يرممون حياتهم، فيما لا يزال مئات الآلاف في مخيمات شمال البلاد يعيشون ظروفاً صعبة لم تتغير منذ سنوات.
كما يعيش سكان المخيمات حالة نفسية متناقضة، فرغم شعورهم بالارتياح لانتهاء الحرب، فإن تعثر العودة إلى قراهم وبلداتهم المدمرة ولّد إحباطاً عميقاً في ظل غياب الموارد. أما العائدين فقد اضطر الكثيرون منهم لبناء خيامهم على أنقاض منازلهم، أو سقفها بشوادر من النايلون.
أما أبرز العوائق التي تمنع عودة اللاجئين من خارج البلاد فهي تدمير ممتلكاتهم ومنازلهم خلال سنوات الحرب، إضافة إلى الوضع الأمني والصعوبات الاقتصادية وعدم توافر الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء بشكل دائم، فضلاً عن أن أطفال اللاجئين السوريين في الدول الأوروبية، لم يتلقوا تعليمهم باللغة العربية، وهي اللغة الرسمية في المناهج المدرسية في سوريا.
تغيير شكلي بانتظار المضمون
يمكننا القول أن سوريا تغيّرت في الشكل، لكنها لم تتغير في العمق، فتوقّف الحرب أحدث فرقاً واضحاً في الشوارع، والأسواق والمدارس، وبدأ الأمل يتسلل إلى نفوس الناس، لكن جذور الأزمة من الاقتصاد، العدالة، والمصالحة المجتمعية لم تُنتج حلولاً حقيقية بعد.
ورغم رحيل نظام الأسد، فإن البلاد لا تزال أمام طريق طويل لضمان أمنها وإصلاح الشقوق الاجتماعية، عام على التحرير، كان عاماً لكسر الجمود، فالسوريون اليوم أكثر وعياً، وأكثر إرادة، وإن كان الأمل حذراً، إلا أنه موجود، وسيكون بداية التغيير الحقيقي في السنوات القادمة.