عام من حكم الهاشتاغ في سوريا
8. ديسمبر 2025
عامٌ واحد فقط كان كفيلاً بأن يحوّل سوريا من دولةٍ تُدار من المكاتب المغلقة والمخابرات والحواجز الأمنية والخوف من الشبيحة، إلى دولةٍ تُدار — بجرأة لا مثيل لها — من خلال «شاشة سوداء» وهاشتاغ يرتفع وينخفض مثل نبضات قلب على جهاز إنعاش.
سنة كاملة أصبحت فيها السياسة السورية أشبه ببرنامج مسابقات بث مباشر. الحكومة تُصدر القرار، الشعب يصوّت عبر «فيسبوك» و«تويتر»، ثم تنتظر الحكومة النتيجة النهائية، قبل أن تعلن — بكل ثقة — أنها كانت تخطط لهذا منذ البداية أو أننا كشعب قد أسأنا الفهم فيعتذر المسؤول.
وكيف لا؟ فقد أصبح «التريند» هو المرجع الوحيد المعتمد وصاحب الكلمة الفصل، فلا دستور، ولا برلمان، ولا مؤسسات، ولا خطط خمسية كل شيء يبدأ بـ هاشتاغ وينتهي بـ ردّ فعل رسمي.
السقوط الكبير اللحظة التي بدأ فيها كل شيء
منذ سقوط النظام السابق في ديسمبر 2024، بدا وكأن البلاد انتقلت من حقبة الخوف إلى حقبة الضجيج. لم يعد السوريون يتهامسون خلف أبواب مغلقة، بل يصرخون على الملأ عبر المنشورات وكاميرات الجولات.
الجميع يتحدث: الموالي، المعارض، المتردد، الغاضب، وحتى أولئك الذين كانوا يعتبرون السياسة آخر اهتماماتهم قبل اكتشافهم لنعمة حرية التعبير.
أما الحكومة الجديدة، فقد تعلّمت الدرس سريعاً لا تقرر قبل أن تستشير الجمهور، والجمهور هنا ليس لجنة خبراء أو أعضاء منتخبين، بل جمهور «أونلاين» يملك الوقت والشحن لإطلاق عاصفة من التعليقات.
تريندات المكوّعين
من أبرز الظواهر التي رسخت في هذه المرحلة هي تريندات فئة جديدة ظهرت بقوة على الساحة الرقمية: «المكوعين». هم أشخاص بدّلوا جلدهم بسرعة كبيرة وتحولوا من العلم الأحمر إلى الأخضر ومن سبّ الثورة والثوار إلى تمجديها والفرح بانتصارها.
لا يعرفون أي معلومة حقيقية عن الثورة وسيرها الزمني. عَمِل هؤلاء على تجاهل دماء الشهداء وتسطيح قضية المعتقلين، واندسوا بين الصفوف التي كانت يوماً تقف بوجه طغيان النظام البائد، فكانوا سخرية الشعب الذي عاش الثورة بكل مراحلها، والذي بدأ بإطلاق حملات وفيديوهات تشرح لهم ماهي الثورة ومصطلحاتها وحتى أهازيجها.
والمكوعين هم فئة لا يحملون أي مسؤولية سياسية فعلية ولكنهم يتحدثون بثقة وزير دفاع، ويُصدرون أحكاماً بثبات قاضي دستوري، وتحوّلوا فجأة إلى شركاء في السلطة. والمثير للسخرية أن الحكومة — بدل أن تضعهم في زاوية الكوميديا — بدأت تستمع لهم، بل وتستبق غضبهم فصاروا مقياساً اجتماعياً وسياسياً، وقناة اتصال غير رسمية بين الدولة والشارع.
ميرا وأحمد.. قصة حب تبتلع قضية المختطفات
كانت هذه القصة من أبرز القصص التي عاشها السوريين وسط ضجة الاختطاف التي تحدث عنها أهلنا في الساحل السوري وفي السويداء، لتظهر ميرا التي تبين لاحقاً أنها لم تكن مخطوفة وإنما هربت لتتزوج من حبيبها وليتحولا فيما بعد لمؤثرين ويزداد عدد المتابعين لهما على صفحات التواصل الاجتماعي، وتتحول قضية المختطفات إلى قضية شك وتكذيب، مع تكرار الحادثة التي أدخلت ميرا وأحمد في صفوف المشاهير، وبدأت القضية بين أخذ ورد مع تطور الأحداث وظهور نتائج التقرير الذي نشرته وزارة الداخلية واللجنة التي شكلتها للتحقيق في هذه القضية.
ولم تكن قصة ميرا وأحمد هي الوحيدة التي جذبت السوريين وحولتهم إلى مصارعين في حلبة التريند السوري.
مؤتمر المؤثرين: الدولة تحتفل بالتريند رسمياً
فُتح قصر الشعب أمام الشعب السوري، وبدء عدد منهم بزيارته، لكن الزوار لم يكونوا سوى من سُمي بالمؤثرين والذين تداعوا من أنحاء المعمورة إلى سوريا بحجة أنهم سينقلون صورة الوطن المحرّر إلى العالم عن طريق متابعيهم.
هذه التصرفات فجّرت موجة غضب وسخط كبيرين لدى الشارع السوري، فانتشر ترند جديد يتحدث عن ضياع هيبة القصر، ليعود ويغلق أبوابه من جديد. نحن لا نريد إغضاب الترند!
وزير الإعلام تصدر لوحده الكثير من التريندات لهذا العام بصوره وتصريحاته، ثم قرر إطلاق أول مؤتمر للمؤثرين، حيث اجتمع «صنّاع الرأي» المثيرين للجدل والسخرية والمعروفين أيضاً بسطحية وسذاجة ما يقدمون على وسائل التواصل، فالمعيار هنا لم يكن النوعية التي يقدمها المؤثر بل بعدد من يؤثر بهم، فكلما ازداد عدد المتابعين ازدادت أهمية الشخص وازدادت حظوته لدى الوزير الذي جمعهم لمناقشة مستقبل البلاد.
حُمّى التبرعات
خلال العام المنصرم، كانت البلاد تعيش في حمى جمع التبرعات، كل محافظة على حدى. ملايين تصرف لجمع ملايين وملايين أخرى تصرف على احتفالات استمرت بلا توقف تقريباً طوال العام: احتفال الهوية البصرية الجديدة، احتفال رفع العقوبات التي لم ترتفع بعد، احتفال الاستثمارات الخارجية، احتفال تغيير سيارات الشرطة، واحتفالات أخرى لا يتسع المقال لذكرها. والشعب في هاشتاغات مؤيدة ومعارضة لهذه الحملات.
حتى إنّ وزير الثقافة تمكّن من تحويل نفسه إلى هاشتاغ وطني بعد إلقائه قصيدة أثناء أداء القسم، مكتسباً لقب «وزير طبق الكرامة»، وهو لقبٌ سيطارده على الأرجح لسنوات.
هل يصنع التريند دولة؟
سنة كاملة من الضجيج والقرارات المرتعشة والآمال المتأرجحة أثبتت شيئاً واحداً: إن سوريا الجديدة لا تُبنى فوق مقرات السلطة فقط، بل فوق صوت الناس. ويبقى السؤال الساخر الذي نتركه مفتوحاً: هل ستبقى سوريا تُدار بهاشتاغات و«تريندات»؟ أم أنّ البلاد تحتاج أخيراً إلى مؤسساتٍ أقوى من زرّ «شارك»؟ ومن جملة أرائكم مهمة!!؟ِ